عاد السحاب وغامت السماء وبدأ القمر فى الأفول وأظلم المكان وغاب عن الأنظار كل بناءٍ
وعمران وتبددت الأفكار وتحجرت وبدا الطريق قاحلاً بَهيماً ومبهماً ..
وإذا بِهما يسمعان صوتاً خافتاً يناجى الله ويناديه .. فوقف كلٌ فى مكانهِ منصتاً متحسساً لهذا
الصوت وصداه .. ثم اتجها إليه وما أن اقتربا منه إذا برجلٍ متضرعاً باكياً ينادى الله منكسراً
متواضعاً .. قائلاً :
هجرت الخلق جميعاً .. أرتجى منك وصلاً فهل أقضى أمنيتى .
أتحرقنى بالنار يا غاية المنى .. فأين رجائى فيك أين مخافتى .
كم بتّ من حرقىِ وفرط تعلقى .. أُجرِى عيوناً من عيونى الدامعة .
لاعبْرتى ترقا ولاوصلى له يبقى .. ولا عينى القريحة هاجعة .
ياعدتى فى كربتى ويا وليى فى نعمتى ويا غايتى فى رغبتى .. إليك قصدت وببابك وقفت
وإلى جنابك التجأت ولك سألت أن تصلى وتسلم على سيدنا محمد ما دار فى السماء فلك
وما سبح فى الملكوت ملك وأن توفقنى لاتباعه والقيام بآدابه وسنته وأن تمتعنى برؤيته
وتقربنى من حضرته وتسعدنى بمحبته ..
يا مُجيب الدعوات ويا سامع الأصوات أتيتك راجياً أطلب رحمتك طامعاً فى دخول جنتك فلا تخذلنى ..
يا مفتح الأبواب ومسبب الأسباب أتيتك طائعاً طالباً خشوع الإيمان مخافة خشوع العذاب فى
النيران ..
اللهم ارحمنى إذا انقضى أجلى وانقطع عملى اللهم هب لى منك فرقاناً تشرح به صدرى وترفع به
قدرى
اللهم إنى أعوذ بك من كل جبارٍ عنيد وشيطانٍ مريد وأستعيذ بك من شر ما أعطيتنا وشر
ما منعتنا ومن شر ما ينزل من السماء وما يعرج فيها ومن شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها ....
وهنا : ..
انقشع الغمام وزال الظلام .. فقدِما الرجل والشيخ وأقدما عليه ونظرا إليه وإلى الدموع التى
تتساقط من عينيه وقد غطت وكست وجنتيه فألقيا السلام عليه فقام من جِلسته وهو يجفف
وجهه ومقلتيه ..
رد عليهما السلام وصافحهما .. ثم قال لهما : من أنتما .. ومن أين أتيتما .. ؟ !
تبادلا الرجل والشيخ النظرات وهما يخفيان ما انتابا أعينهما من عبَرات ..
فقال الشيخ : أيها العابد الزاهد : أنا شيخ هرِم اعتورتنى السنين وطال بِىَ الحنين إلى جنة رب
العالمين
ولقد هدانا الله إلى بلوغ أذيال المتهجدين وحنين المشتاقين لنرى نفساً صافية قائمة بين يدىْ
خالقها عاكفة على مناجاة بارئها تتنسم من النفحات وتتضرع إلى العطايا والهبات ..
وهذا الرجل حزين شاردٌ مهموم لايلين ولا يستكين .. يتساءل تساؤلات محمومة عما يتوارد
فى عقله وفكره من أحاسيس مكبوتة سار فى هذا الليل بلا هدىً ولا طريق بعيداً عن الصخب
والضجيج .. وجدته مهموماً .. فجلسنا وتحاورنا ولكنه ما زال مغموماً ..
رحب بِهما الرجل العابد ودعاهما إلى الجلوس بجواره فى مكانٍ لا حسيس فيه ولا أنيس إلا
من الأنس بالله والتزود من عطاياه .. ثم التفت إلى الرجل واتجه بنظره إليه قائلا له :
أيها الرجل الحزين : من أثناه اليأس عن فعل الله وقدرته أو ساوره الشك فى علم الله وإرادته
فقد باء بسخط من الله فقد قال الله فى كتابه :
{ إنّه لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ }
ومن أدناه الأمل والرجاء ظاناً أنه قد صار فى أمن وأمان فقد باء بالبوار والخسران
فقد قال العزيز الرحمان
{ أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ }
يا أخى : إذا أراد الله بعبدٍ خيراً ألهمه الطاعة وألزمه القناعة وفقهه فى الدين وعضده باليقين
فاكتفى بالكفاف واكتسى بالعفاف .. وإذا أراد الله به شراً شغله بدنياه ووكَله إلى هواه وحبّب
إليه المال وبسط له الآمال .. فأنا أريد وأنت تريد .. والله فعال لما يريد .. فإن رضيت بما أراد
الله أعطاك الله ما تريد .. وإن لم ترض بما أراد الله حرمك الله مما تريد ..
فهذا ملك الله ولن يصير فيه إلا ما يريد ..
**********
هبّ الرجل من مكانه واقفاً وللرجل العابد قائلا : حقاً ما تقول أيها العابد ولكنى أتساءل عن
الرسالة التى ورثناها وعن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حملناها .. :
كيف لا نقوم بفرضها .. ؟ وكيف نتقاعس عن التكليف الواجب من الله علينا بِها .. ؟ ! ..
ولقد قال الله فى كتابه ومحكم آياته :
{وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ }
وقال سبحانه وتعالى
{وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ
قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ }
أليس من الواجب علينا أن نرعى أمانة الله ونصون عهده لتحقيق وعده لإنقاذ الحيارى
التائهين والأخذ بيد العاصين والمذنبين لننجو بِهم من ذل المعصية إلى عز الطاعة ومن ظلام
الجهل إلى نور العلم ولنقيهم من عذاب الله الأليم وهول الجحيم للفوز بجنة رب العالمين ..
نظر إليه العابد وقال له : إجلس أخى الكريم : ألا تعلم أننا محاسبون بما نحن به مكلفون ..
هذا الخطاب من الله الذى ورد فى كتاب الله إنما هو : لطائفةٍ من المسلمين وهم كل من تفقه
فى الدين من الأئمة والعلماء فاولئك هم ذوى التمكن والإقتدار واولئك هم المنذرون لأقوامهم
والمحذرون لشعوبِهم ..
يا أخى : لو تعيّن عليك فرضاً من الله فأقمته فأنت المثاب .. ولو قمت بتركه فقد بؤت بالمأثم
والعقاب .. أما فى فروض الكفايات : إن قام البعض بفعلها سقط الفرض عن الباقين ..
وما تتساءل عنه فرضٌ من هذه الفروض يكفى أن يقوم به طائفة من المسلمين لإسقاطه عن
الآخرين
فإن تقاعدوا أو تخاذلوا .. إن تقاعسوا أو تواكلوا : فهنا : يعمّ الفرض أو الإثم علينا أجمعين
فقال له الرجل المهموم : لقد أصبت فيما قلت أيها الزاهد .. ولكن .. : ألا ترى : أن غالب
علماء الدين ودعاة المسلمين متقاعسين عن التكليف الواجب عليهم والرسالة المُلقاة على
عاتقهم فلا يقوموا ببيان شرع الله ويكتمون ما نزل فى كتاب الله ..
انتفض العابد مندهشاً وقال : أوْضِح لى يا أخى ما تَهدف وترمى إليه ..
فقال : إنّهم لا يبينون المنهج الكامل فى دين الله ويُغفلون كمال الرسالة التى أنزلها الله ..
وقد قال الله تعالى
{ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ }
ألا ترى أيها العابد : أنّهم يغضون الطرف عن الجهاد والقتال فى سبيل الله ولا يتحدثون عن
قواعده وأحكامه وكأنه ليس فى كتاب الله ..
ألا ترى : أنّهم تجاهلوا بيان الفرض فى قتال المشركين وهم قابعين فى الوثنية يغطون فى
الجاهلية يعبدون غير الله .. وقد قال الله جل علاه
{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه }
أليس من الواجب عليهم أن يبينوا حكم الله فى هؤلاء الكفار الذين عمَت أبصارهم
وجثا الجهل على عقولهم .. أليس من الواجب عليهم أن يسلكوا لهم الحجة والمحجة للعدول
بِهم عما هم فيه من ضلال وطغيان إلى عبادة العزيز الرحمان لينتشلوهم مما غرِقوا فيه من
الجهالة وما انْهمكوا فيه من الضلالة
**********
ألا ترى : أنّهم يستحون من بيان أحكام الجزية التى ضربَها وفرضها الله على الذين
أوتوا الكتاب وعن وجوب اقتهارهم وقتالهم عليها إذا أبوا أن يعطونَها وهم صاغرين ..
وقد قال الله فى كتابه ومحكم آياته :
{قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ
دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ }
أليس من الواجب عليهم بيان الحكم الذى ورد فى كتاب الله عن اليهود والنصارى وعن
غيرهم ممن هو على شاكلتهم وممن كذبوا وأنكروا دين الله وجحدوا كتاب الله ولم يوقنوا
بالدلالات والبراهين واستكبروا عن وضوح الحق المبين بأن الله قد ضرب الجزية عليهم
للنجاة بِهم وإنقاذهم مما هم فيه منغمسين وما هم فيه قابعين علّهم يثوبون إلى رشدهم ويتذكرون
الفطرة التى فطرها الله لهم ..
*************
ألا ترى : أن هؤلاء العلماء والدعاة يروا ما يسرى فى هذا الزمان فى غالب البلاد الإسلامية
بما يسمى بحرية العقيدة والإعتقاد مخالفين أصل الدين وما أمر به رب العالمين ..
وهم قد عقدوا ألسنتهم وصمّوا آذانَهم .. ألم يقرأوا قول الواحد القهار :
{ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ
اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ }
ألم يروا أيها الزاهد : أبحاث أهل النفاق والشقاق وآرائهم المزلة وأهوائهم المضلة التى
يزينونَها ويطوّعونَها للعمل بِها بين المسلمين ويلوون بِها أعناق نصوص كتاب الله المبين ..
وهم قد ركنوا للدعة والسكون ساكتين صامتين .. ألم يقرأوا قول العزيز الجبار :
{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ
النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }
ألم يدركوا أيها العابد : ما قال ويقول به الأفاقين والمنافقين وقد أصدروا حكماً جائراً
وقولاً ظالماً على كل من أراد القتال والجهاد فى سبيل الله ورفع راية دين الإسلام بأنه خارج
عن حظيرة الدين .. وقد قال تعالى
{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ }
ألم يعوا أيها العابد : مخالفة المسلمين لما فرضه الله من عقوبات للجنايات والحدود
والتعزيرات وما بعدوا به عن حدود الله فى الميراث والمعاملات وما احتكموا إليه من قوانينَ
وضعية وما سنّوه من أحكام غير سماوية .. وهم لا يدفعونَها ولا يحركون ساكناً لها ..
وقد قال الله تبارك وتعالى
{وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ }
ألم يعلموا مايقوم به أعداء الدين وما يبثنوه سراً ولا يتظاهرون به جهراً
وكيف تجمع الاموال وتحشد الجهود وتذلل الصعاب فى سبيل تمكين المبشرين منهم من
زلزلة إيمان أهل الفطرة من المسلمين الذين وقعوا تحت نفوذهم بل وزلزلة أبنائنا
وتشكيكهم فى دينهم وتَهوين شأنه فى قلوبِهم .. فيعوا قول الله جل علاه :
{وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ }
حتى آل بنا الحال أن نستجدى الأمن والسلام منهم ونحن القاهرون والعالون عليهم ..
وقد قال الله لنا :
{فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ }
لقد عجزوا عن الإفصاح لهم بأنّهم مكلفون بالإيمان ومخاطبون بالإسلام رغم أن التكليف
الذى أوجبه الله عليهم وأوكله إليهم لا يكمن إلا فى مجرد البلاغ لهم فلسنا بوكلاءٍ عنهم
ولا أىٍ منا بحفيظٍ عليهم ..
**********
أيها العابد : ألم يختص الله هذه الطائفة بخشيته وميراث أهل نبوته ورسالته ..
أليسوْا هم الذى اختصهم الله من بين عباده بخشيته ليُقتدى بِهم وينتهى إلى رأيهم ..
ألم يرتضيهم الله للقيام بحجته والإخبار بشريعته لينذروا العباد فى مختلف البلاد ..
ألم يأمرهم الله أن يبينوا لأقوامهم أحكام كتاب الله وآياته وماورد من بيناته لعلهم يحذرون
ويهتدون ..
**********
أيها العابد : هؤلاء هم المتمكنين المقتدرين .. هؤلاء هم الطائفة المتفقهة فى الدين ..
هؤلاء هم فقهاء وعلماء المسلمين .. الناس تعظمهم وتجلّهم وتقدس أقوالهم وتنظر إلى أفعالهم ..
يقومون بالوعظ والإرشاد وسرد القصص والحكايات .. يقرأون كتاب الله ولا يعملون به ..
يعلمونه ولا يتعلمون منه .. يتركون أوامره .. ولا ينتهون بنواهيه ..
أيها الزاهد : لقد حارب سيدنا أبو بكر الصديق رضى الله عنه : مانعى الزكاة ..
وحارب سيدنا على بن أبى طالب رضى الله عنه : البغاة .. وهذا وذاك فرع من فروع الدين ..
فما بالك إلى ما يؤول إلى أصل الدين ..
***********
نظر العابد إلى الشيخ قائلا : حقا ما تقول أيها الشيخ .. هذا الرجل لا يلين ولا يستكين ..
ولكنى معه فى كل ما قال به وما يقول .. فما قاله صدقاً وحقاً وعدلاً ..
فهذا هو ما آل إليه حال العلماء والدعاة وهم من اختارهم الله بعد الرسل والأنبياء ..
ومن يقتفى آثارهم ويتعلم منهم من يأتى بعدهم ليكون من فقهاء الإسلام .. أيها الشيخ :
هناك مِن الناس وعامة المسلمين مَن مات ويموت جاهلاً بما كان عليه واجباً من مبادىء
وأسس وأصول الدين .. وهناك من يحيا منهم فى هذه الحياة وقد ألِفوا الصمت والكتمان
للأحكام التى وردت فى كتاب الله لما تربّواْ عليه من علمائهم ومن أئمة بلادهم فشبّوا
وشابوا عليها ووَعُر مسلك التخلص منها ..
وهناك الغالب من الكفار والمشركين ومن اليهود والنصارى والصابئين : من لم يبلغهم صحيح
وحقيقة الدين ..
وهناك من ألِف منهم أنّ من يدين به شأنه فى دينه شأن دين المسلمين لما رأوه من علماء
المسلمين
ولما قاموا به من الحوار والمقارنة بما نسخه الله مع الدين الذى جعله الله لكل العالمين
ولكافة الخلق أجمعين فجعلوا ماحرفوه فى كتب الله فى مصاف ماحفظه وأنزله الله ..
************
رد الشيخ قائلا : يا أخى العابد ويا أيها الرجل الحزين :
فى الغابر من الزمان :كان هناك نجوماً زاهرة وبحوراً زاخرة من أنوارها كنا نقتبس
ومن مناهلها كنا نغترف .. أما الآن : فلقد بات العلم بين العلماء إلى عَفاء ومن يقول الحق
منهم يقوله على خفاء حتى صار الدين عُرضة لمن شاء فهؤلاء لم يعوا علومه
ولم يجسدوا تعاليمه .. فأصابنا الخطب من المصائب والنوائب منهم ومن أمثالهم ومن
الذين يقولون بما لا يفقهون .. وممن يدّعون بما يفعلون أنّهم لدين الله ينتصرون ..
وممن يفتون بما لا يعلمون ..
كما أن أعداء الدين قد أغرقونا فى المدنية والمادية حتى أبعدونا عن تعاليم وأصول الشريعة
الإسلامية .. فآثرنا الدنيا فأسرتْنا ....... فابتدره العابد بالكلام .. قائلا :
أهذا يعنى أيها الشيخ أنّا لانقيم حدود الله ولا نطبق أحكام الله لما صرنا عليه من عدم الإمكان
ولما أصبحنا فيه من الضعف والإنقسام ولما آل عليه حالنا وانفرط منه عِقْدنا ..
فلا نستطيع القول بما قال به الله وما قال به سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
ولا نملك الفعل الذى كان عليه أصحابه رضى الله عنهم
لقد أعزّنا الله بديننا .. أنترك ما أمرنا به رب الأرض والسماء من أجل عبيد أذلاء ونحن
المؤمنين وهم من أخزاهم الله .. أنستجدى العزة من غيرنا وممن كفروا بدين الله ولا نبتغيها
من الله .. أيها الشيخ الكريم :
إن الله ناصر دينه : بنا .. أو بدوننا .. وإن كل ما فرضه الله علينا تكليف من الله واختبار لنا
.. فإن لم نفعل ما أمرنا الله به وخشينا العباد فلن نجنى إلا العذاب والعقاب ..
***********
فقال الشيخ : لقد بادرتنى أيها العابد بالحديث والكلام .. فلتصغ وانتبه لما أقول :
فهناك مَن يُعدّون أمام الناس من العلماء وهم من ذوى الجهل والغباء .. هؤلاء قد استهانوا
بقواعد الدين فاتخذوا من عقولهم شرعاً وجعلوا منه ردعاً ومنعاً .. ولو سُلّط ذلك على ما تقول
به ألسنتهم وما يفكر به عقولهم لجعلنا هواجس النفوس محل الوحى إلى الرسل ولااختلف ذلك
باختلاف الأزمنة والأمكنة .. فلا يبقى للشرع مستقر ولا ثبات ..
فإذا ثقل اتباعٌ لشرعٍ من شرع الله .. وقام بعض الدعاة أو صنف من علماء بنى الدهر بتفسيره
حسب هواه أو تطويعه نفاقاً لحاكم أو ملك أو سلطان .. فلسوف نتبع عقله المعقول ونترك أحكام
الله ومدارك الرشاد فى دين الله ..
يا أخى : ماذا بعد الحق إلا الضلال ..
إن شريعة الله لا تُقتضى من رأى الحكماء ولا تتلقى من استصلاح العقلاء وإلا نكون قد تركنا
كتاب الله وما ابْتُعث به سيدنا رسول الله سيد الأنبياء صلى الله عليه وسلم ..
إن سطى معتدٍ وتعدى مراسم الشرع وكذب فى دين الله وافترى فليعلم أنه قد حاد عن دين
المصطفى صلى الله عليه وسلم .. وأنه قد اقتحم حوباً وإثماً كبيراً .. فإن تشبث به بعد بيانه له
فقد باء بسخط من الله وحاق به العذاب ولا يُؤمَن له أن يكون قد انسلّ من ربقة الدين انسلال
الشعرة عن العجين ...
... وهنا : قال الرجل الشارد المهموم : إسمح لى أيها الشيخ الكريم :
كيف النهضة بأمتنا من كبوتِها .. ونحن كما قال العابد قد انفرط عِقدنا وآل ما آل عليه حالنا
وأصابنا الضعف والإنقسام .. ؟
وكيف ننصر ديننا ونصون ديارنا ونرفع راية الإسلام .. واليهود والنصارى قد تسللوا إلينا
وتلصصوا علينا .. ؟
وكيف تؤدى الأمة رسالتها .. وقد غرقنا فى المدنية والمادية وبعُدنا كل البعد عن تعاليم وأصول
الشريعة الإسلامية .. ؟
تنهد الشيخ وهو يلتقط أنفاسه مطلقاً زفراته وحسراته وقال :
لا نَهضة لهذه الأمة من كبوتِها ولا قيام لها برسالتها إلا إذا صلُحت فى نفسها ..
فنحن المسلمين جاهلين بديننا وبالشريعة التى أنزلها الله لنا غير عاملين بِها ولا بأحكامها ..
لذا : نحن أظلم لها من أعدائنا ..
ومسلك السداد ومنهج الرشاد أن نبتدىء أولاً بالإحتكام بيننا لشرع الله وللقواعد والأحكام
التى وردت فى كتاب الله والعمل بما نزل من عند الله وما سنّه سيدنا رسول الله صلى الله
عليه وسلم ..
وهذا لا يتأتى إلا : بصلاح حال الدعاة .. وصلاح العلم والتعليم .. وصلاح الملوك والسلاطين
والحكام والأمراء .. وإعداد العدة والعتاد للقتال فى سبيل الله .. وردع الطغاة ..
ووجب الإجتماع والإجماع للعلماء الأكفاء الذين لا يخافون فى الحق لومة لائم والذين هم من ذوى
القدرة والتمكن ليوحّدون الصف فيما بينهم فى تعلّم وتعليم المنهج السليم والقويم
الذى سار عليه خلفاء المسلمين بعد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
ثم يقوم الدعاة ببث حقيقة الإيمان بين بلدانِهم وبين أبناء أوطانِهم وتعليمه تعليماً صحيحاً للعمل
والإلتزام والتمسك به ليدرك المسلمون ويعوا أن هذا الدين هو سر عظمتهم ومبدأ سيادتَهم
وعزتَهم وأنه الكفيل لسعادتِهم وقوتِهم .. وليتيقنوا أنّهم إنِ انحرفوا عن تعاليمه ومبادئه
فسيصابوا بالضراء وبكل ألوان الويل والشقاء فى الدنيا والآخرة ..
وبِهذا العلم والتعليم والتعمق فى البحث والفحص سيتضح ويستبين أن الخلاف الذى فرّق بين
الأمة وجعلها طوائف وشيعا أقل وأضعف من أن يؤدى إلى ذلك .. لأنه إذا ما شع نور العلم فى
عقل الإنسان فسيشرق قلبه بضياء الإيمان ..
حينئذ يتم التعجيل بالقضاء على الضعف والإنقسام الذى تفشى بين الأمة ويتم التفرغ لما ينفع
المسلمين ويصلح شأنَهم بالمنهاج الواضح والقويم المسلّم به بين جميع بلاد المسلمين
ويجب أن يكون هناك مدافعين عن الدين لمحاربة المفسدين والخانعين واستئصال شأفة أهل
الشِقاق ودرء أبحاث أهل النفاق وللقضاء على المتلصصين والمترصدين لهدم قيم ومبادىء الدين
ولكى تنتظم الأحكام فى بلاد الإسلام يجب أن يكون هناك تحقيق وتنقيح لتتوحد الأقوال والآراء
ويتم نفى كل ما أدخل على الدين من خرافات وأوهام ودفع كل مابثه ودسه الزنادقة والوضاعين
من أباطيل وترهات ومن ابتداعٍ وزخارف للروايات التى خالفت العقول وناقضت الأصول وباينت
النقول والذى ما زال عامة المسلمين بل وغالب المتعلمين متمسكين بِها يؤمنون ويدافعون عنها
وهى آراء مزلة وأهواء مضلة وأكاذيب واختلافات وأساطير وخرافات ..
ويجب أن يكون هناك مجتهدين مستنبطين لبيان الحكم المستمد من أصل الدين فيما يجدّ من
حياة البشر فى مسألة من المسائل أو فى واقعة من الوقائع لم يرِد بِها نص صريح فى كتاب الله
أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .. هؤلاء المجتهدين يجب أن يكونوا مؤهلين تأهيلاً
سليماً لأنّهم سيحكمون ويفتون ويقضون بما حكم به الله وما قضى به سيدنا رسول الله صلى الله
عليه وسلم ..
كما يجب أن نقوم بتجهيز وإعداد العدة والعتاد دون ضعف أو مهانة ودون مواربة أو استكانة ..
فالمسلمون هم سادة العبيد وقادتُهم وهم خير الأمم وأئمتهم ..
قد يكون فى ذلك تضحية ببذل النفس والمال إلا أنه سيكون فى سبيل رفع راية الإسلام ..
فأعداء الدين يعدون عدتَهم وينفقون أموالهم فى سبيل الصد عن دين الله ..
أما نحن : نعد العدة والعتاد لننصر دين الله .. لذا :
يجب اليقين أنه مهما بلغ عدتُهم وعتادهم ومهما كانت قوتُهم وشوكتُهم فلن ينتصروا علينا ..
لأن النصر دائما للمسلمين .. يقول سبحانه وتعالى فى كتابه الكريم
{قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ }
{لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى }
فالله ناصرنا ومخذلهم مادمنا نقاتل عن عقيدة وإيمان لرفع راية دين الإسلام ..
وحينئذ ستعود الأمة الإسلامية أمة واحدة كما تركها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
تطبق شريعة الله على كل من حاد ومال عن دين الله طواعية منهم أو كَرهاً عنهم ..
تعود أمة عزيزة أبية تشعر بعزتِها وكرامتها لا غرض لها إلا نشر دين الله وإعلاء كلمة الله
تعود وقد اتحدت بلادها وأْتلفت قلوبِها ونبذت الأحقاد والعداوة بين أبنائها ومختلف أقطارها ..
تعود وقد استقر فى قلوبِهم الحب الصادق لدينهم حريصين على أن يسلكوا سبيله فى حياتِهم
يسيرون على خطته ومنهاجه فى كل شئونِهم فتنهض الأمة من كبوتِها وتؤدى رسالتها
الحق رائدها والإنصاف قائدها ..